رحم الله نعيمة سميح التي أهدتنا كل هذا الجمال.. تقبلها الله قبولا حسنا وصادق التعازي لأسرتها ومحبيها.
*طارق جبريل
وصلت المغرب في منتصف مارس في التسعينيات، كان فصل الربيع يتدحرج إلى نهاياته، لكن اعتدال الطقس مكنني من التجول والتسكع في أحياء مدينة الرباط والتعرف عليها عن قرب.
كانت منطقة الوداية، وما زالت، أحب الأماكن إلى القلب، في مقهاها العتيق قرأت الكثير من الكتب وتأملت التقاء «أبو رقراق» بالمحيط، وتذوقت طعم حلوى «كعب لغزال» لأول مرة رفقة «الأتاي المنعنع».
كان خط سيري يبدأ من «مسجد السنة» مرورا بشارع محمد الخامس وتصفح الجرائد لدى «الروبيو» ثم «السويقة» ومنها إلى سوق «السباط» ثم سوق «الجلد والزرابي» حتى منطقة الوداية.
في الأسبوع الأول وعقارب الساعة تتحرك ببطء نحو العصر وشمس متوعكة تتدحرج من السماء نحو المحيط، والغربة تمرن أسنانها على وجهي وروحي، تدحرجت عبر الطريق نفسه حتى وصلت إلى بداية السويقة حيث كانت الكثير من «حوانيت الكاسيط» حينها تملأ المكان صخبا، أرخيت أذني علني أفهم «لغة الماروك»، وأنا ألتقط بعض الكلمات بالدارجة المغربية.
أولى الأغاني التي لفتت نظري كانت لـ«أوركسترا فيصل» «اللي گال كلام العار عمرو ما يحلى ليا»، كان إيقاعا مختلفا عن إيقاعات «أرض السمر» مثل «الدليب» و«التم تم» و«المردوم»، كأنما «صاحب الحانوت» أحس أنني أبحث عبر الأغاني عن هوية هذا البلد الذي حطيت به الرحال فكان أن جاء صوت طروب من داخل «معبد الأغاني» ذاك:
ياك آ جرحي جريت وجاريت
حتى شي ما عزيتو فيك
يا لعذوبة هذا الصوت الشجي، يا إلهي صوت «كلثومي» عند تخوم الأطلس، أي حنجرة هذه، كأنما السيد أحس أن دواخلي قد أتخمت مع هذا الينبوع الدافق الدامع من صوت هذه المغنية التي وصلني تطريبها الجميل فزاد في الصوت:
واسيت وعالجت وداويت
وترجيت الله.. الله يشافيك
أجرحي واليوم.. اليوم تهديت
نبالي بيا أولا بيك
هذا صوت يطهر ذاكرة الطرب من الموبقات التي علقت بها على شاكلة «بوس الواوا»، وكلمات «على الحداني» تجعل الحب ماء يجري في القلب ليمنحه الحياة، ستظل للحب بذور تغرس ما دامت الأنفس تستنشق أوكسجينها. استمر ينبوع الصوت الدافق هذا يدمع من هذا الصوت الجميل ليرتفع منسوب العذوبة:
ولا فهادي حتى واحد.. حتى واحد
حتى واحد ما ينوب ألحبيب عليك
ففاضت دهشتي حتى أغرقت المكان دندنات وروحي تلعق هذا الطرب المدلوق داخلها، هذا لعمري صوت لم يطرق أبواب أذني يوما. سألت الرجل عن المطربة التي تغني؟ قال إنها المطربة المغربية نعيمة سميح.
قلت لم لم يصل هذا الصوت إلى المشرق؟ كيف لهذه الحنجرة الذهبية أن تختبئ هنا في تخوم الأطلس؟ ابتسم الرجل وقال بدارجة موغلة في مغربيتها: «للا نعيمة سميح راها فنانة ديال بصاااح خلي عليك هاداك تعواج الفم إلا بغيتي تتصنت للغناء المغربي سمع للا نعيمة».
منذ ذلك التاريخ أصبحت «للا نعيمة» إحدى الأيقونات التي تشنف أذني متى احتجت السكينة والهدوء، ومتى ما بحثت عن الطرب الحقيقي والأصيل.
إنا لله.. رحم الله نعيمة سميح التي أهدتنا كل هذا الجمال.. تقبلها الله قبولا حسنا وصادق التعازي لأسرتها ومحبيها.