هل يمكن للإنسان أن يحب شخصاً لم يره في حياته؟ وهل من المنطقي أن نختار شركاء حياتنا خلال أقل من شهر؟
إذا كنت من محبي البرامج الواقعية والترفيهية، أو من مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي، فلابد أنك شاهدت أو سمعت على الأقل عن برنامج “الحب أعمى حبيبي” الذي يُعرض على شبكة “نتفليكس”.
خلال السنوات الماضية، ظهرت على بعض القنوات العربية برامج للبحث عن الحب وإيجاد شريك الحياة، وهي برامج أثارت الجدل، حيث اعتبر كثيرون أنّها “لا تناسب ثقافتنا العربية”، لكنّ برنامج “الحب أعمى حبيبي” حصد متابعة واسعة، واختلف عن غيره من البرامج بنقطتين رئيسيتين، فالمشاركون يقررون إتمام العلاقة والزواج بشركائهم دون رؤيتهم، وعليهم أن يتخذوا هذا القرار خلال أقل من شهر واحد.
تجربة اجتماعية
تصف شبكة “نتفليكس” البرنامج بأنه “تجربة اجتماعية، حيث يتواصل العازبون العرب ويلتزمون بالزواج- قبل أن يلتقوا وجهاً لوجه”. وهو نسخة عربية من البرنامج العالمي الحب أعمى”Love is blind”، أضيفت له كلمة “حبيبي” لإضفاء طابع عربي، كما عُدلت بعض تفاصيل البرنامج لتصبح أقرب للثقافة والتقاليد في المجتمعات العربية.
وتتلخص التجربة بعشر حلقات، تسعٌ منها عُرضت في العاشر من أكتوبر الماضي، وحلقة أخيرة سُميت بـ “لم الشمل”، عُرضت في الأول من نونبر الجاري، اجتمع فيها المشاركون بعد عام كامل من إتمام التجربة ليعيدوا قراءتها ومشاركة تفاصيلها.
تبدأ الحلقة الأولى بمشاركة مجموعة من الشبان والشابات العرب، الذين يسعون للقاء شريك حياتهم، وللتعرف على الشريك/ة يدخل المشاركون إلى حجرات متقابلة، يفصلها حائط يمنعهم من رؤية الشخص الآخر في الحجرة المقابلة.
يقابل كلٌ منهم عدداً من المشاركين من الجنس الآخر، ويتحدثون لأوقات محددة في محاولة للتعرف على طبيعة حياتهم واهتماماتهم، من هنا تبدأ مشاعر الإعجاب والحب بالتطور بين المشاركين، حتى يقرر الرجل خطبة الفتاة التي كوّن معها العلاقة الأفضل- أو التي اعتقد أنها الأنسب له.
بعد ذلك، يلتقي الشريكان، ويقدم الرجل خاتم الخطوبة للفتاة كخطوة أولى، وصل إلى هذه المرحلة ستة أزواج انتقلوا بذلك إلى المرحلة الثانية، وهي مرحلة يقضي بها جميع المشاركين فترة عطلة في منتجع سياحي ليتعرفوا على بعضهم بشكل أكبر.
في المرحلة الثانية، لا يتعرف الشريكان على بعضهما فقط، بل على المشاركين الآخرين الذين تأهلوا أيضاً. وفي المرحلة الثالثة، يعود المشاركون إلى حياتهم الطبيعية لفترة، حتى يختبروا علاقتهم في الحياة الواقعية، ثم يتعرف الشريكان على عائلة الآخر.
أما المرحلة الأخيرة، التي وصل لها ثلاثة أزواج، ففيها يدخلان إلى المكان الذي جُهّز لحفل الزفاف، ويقفان أمام المدعوين بملابس الزفاف، ليسألهما المذيعان إن كانا سيستمران بالزواج، فإن أجاب الاثنان بنعم، صعدا حيث يوجد المأذون لكتب الكتاب و”تم النصيب”، أما إذا رفض أحدهما، فلا زواج ولا حفل زفاف.
في الحلقة التاسعة، أتم زوجان زفافهما، محمد وصفا، فيما اختار شفيق ودُنيا إعطاء وقت أطول لعلاقتهما خارج البرنامج، أما خطًاب وأسماء فلم يكملا الزواج بسبب عدم وجود أهلها وموافقتهم.
في الحلقة العاشرة، التي صوّرت بعد عام كامل من بداية التجربة، اجتمع كُل المشاركين الذين تأهلوا للمرحلة الثانية، محمد وصفا ما زالا معاً، شفيق ودنيا كذلك، إلاَ أنهما قررا الزواج، لكنّ خطاب وأسما اتفقا على الانفصال.
تجربة منطقية على أرض الواقع؟
يقول سيمو، أحد المشاركين من المغرب، إن جده تزوج جدته دون أن يراها، وهذا ما جعله- أي سيمو- يفكر بالزواج بهذه الطريقة. وهذا تساؤلٌ آخر، فما يراه البعض اليوم أمراً خارجاً عن المنطق وربما عن الثقافة، كان في السابق أمراً عادياً في صُلب ثقافتنا في العديد من البلدان العربية؟ ألم يكن زواج أجدادنا وجداتنا “زيجة الدهر” ومثالاً على الحب والمودة و”العشرة” الطويلة التي لم تكن تنتهي في كثير من الأحيان إلا بالموت؟
ماذا يقول علم النفس؟
تقول سلمى حنوش، وهي دكتورة إرشاد نفسي وتربوي وإرشاد زواجي، إن اتخاذ قرار الزواج بسرعة “مخاطرة كبيرة” وقد يكون قراراً “اندفاعياً”، وعادةً ما يكون مبنياً على الانجذاب والتوافق على القيم والمبادئ وربما المعرفة العائلية، لكنّ معرفة الشريك لا تكون عميقة.
سلمى لفتت الانتباه إلى “حلاوة البدايات” كما يسميها هذا الجيل، إذ تبيّن أن الأمر حقيقيٌ بل وعلميٌ كذلك. تقول حنوش إنّ هرموني الأكسيتوسين والدوبامين يزدادان في بداية العلاقة، ويدعمان مشاعر التعلق والانجذاب والثقة، ويعززان شعور الإنسان بالسعادة ويحفزانه على الاندفاع تجاه الطرف الآخر.
في بداية العلاقة، يُفرز هذان الهرمونان بشدة، إلا أنه بعد فترة من الزمن يعود إفرازهما إلى المستوى الطبيعي خاصة بعد الاطمئنان لوجود الشريك، لذا، فالقياس الحقيقي للحب ولنجاح العلاقة، يجب أن يكون بعد انتهاء هذه المرحلة.
لكن هل “الحب أعمى”؟
تقول حنوش، إنه يمكن أن يطور الإنسان مشاعر حب دون رؤية الآخر وجهاً لوجه، وهذا ما يحدث عادةً في العلاقات “عن بعد”، إذ يبني الشخصان رابطة قوية بمشاركتهم الحديث والاهتمامات والمشاعر من خلال الرسائل النصية أو المحادثات الصوتية أو الفيديو. توكد حنوش أن الاهتمام بهذه العلاقة يمكن أن ينميها حتى لو لم يكن هناك اتصال مباشر وجهاً لوجه، لكن ذلك لا يكفي.
وتصف حنوش عدم رؤية الشريك بـ”سيف ذو حدّين” ففي الوقت الذي قد تقوي فيه هذه العلاقة الروابط العاطفية، إلا أنّ معرفتنا بالشريك- هذه المعرفة التي نبنيها عن بُعد “قد لا تكون حقيقية وعميقة”. فالإنسان بطبيعة الحال يكون أقل توتراً حين يختفي عنصر المواجهة، ما يجعله يشعر بأمان وراحة أكبر في هذا النوع من العلاقات، ويجعل صورة الشريك “مثالية” بالنسبة له، وهو ما يمكن أن يصدمه حين يلتقي بهذا الشريك على أرض الواقع، خاصة عندما تكون صورته مغايرة لتلك التي رسمها في مخيلته.
قد يحاول الإنسان مقاومة هذا الشعور، بحسب حنوش، إلاً أنه بعد الزواج يبدأ بملاحظة التفاصيل التي لا يتوافق فيها مع الشريك. بالتالي، فقد تكون بداية هذا الحب حقيقية، لكنّ الحفاظ على هذه العلاقة على المدى البعيد “سيكون متعباً ويحمل الكثير من التحديات”. وتؤكد حنوش، أنّ الدراسات أثبتت أن للغة الجسد أهمية بالغة بين الشريكين، وهو أمر مفقودٌ في هذا النوع من العلاقات.
أما عن نجاح هذا النوع من العلاقات في السابق، خاصة عند الأجيال السابقة، تقول حنوش إن منظومة العلاقات كانت مختلفة، والتوقعات كذلك. فدور المرأة والرجل كان واضحاً، والتوافق الاجتماعي كان أهم العوامل، كما كان الزواج التزاماً عائلياً، فأساس العلاقة كان النجاح الاجتماعيّ: العلاقة الناجحة هي الناجحة اجتماعياً وليس شخصياً، تقول “لم يكن للمرأة ومشاعرها وعواطفها قيمة، فكانت العلاقات تعتمد بشكل كبير على الصبر والتحمل”.
اليوم، تغيرت المعادلة باختلاف منظومة القيم والعادات بحسب حنوش، فالعلاقات أصبحت متاحةً بشكل أكبر “لدينا بحر هائل من الأشخاص الذين يمكن التعرف عليهم”. كما أصبحت العلاقات أكثر استقلالية، فاليوم اتفاق الرجل والمرأة معاً أهم من اتفاق العائلتين، كما أصبحت التوقعات الشخصية والاحتياجات الفردية لكل منهما أكثر أهمية، هذه التفاصيل باتت أهم عوامل الزواج الناجح، فيما بات دور العائلة ثانوياً إلى حد كبير.