قدّم خبير العلاقات الدولية أحمد نور الدين، في ندوة وطنية نظمت يوم أمس الأربعاء بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، حول موضوع “قضية الصحراء المغربية على ضوء التحولات الدبلوماسية والجيو سياسية”، سردا كرونولوجيا للبوادر الأولى لافتعال نزاع الصحراء المغربية، الذي عمّر لأزيد من نصف قرن، ومرّ من مراحل مدّ وجزر بين المغرب والجزائر، الطرف الرئيس في النزاع.
تمهيد إسباني
ويرى نور الدين أن بذور نزاع ملف الصحراء أقدم من سنة 1973 التي طفى فيها النزاع إلى السطح، وأكد أنه “في الفترة بين 1860 و1934، زرعت إسبانيا هذ النزعة الانفصالية بطريقة أو بأخرى”، موضحا “لأنه في سنة 1860 كانت نهاية معركة واد تطاون وتوقيع اتفاقية هزيمة الجيش المغربي أمام الجيش الإسباني، وضغطت إسبانيا للسماح بإنشاء ما يعرف بالمنصات التجارية في السواحل المغربية في الصحراء جنوب واد نون”، مسترسلا “لماذا تطلب إسبانيا من المغرب إنشاء هذه المنصات التجارية إذا لم تكن تعترف بالسيادة المغربية على هذه المناطق؟”.
وقفز نور الدين إلى سنة 1884 التي يراها محطة أخرى مهدت الطريق أمام النزعة الانفصالية بعد مؤتمر برلين وبدء الحديث عن تقسيم القارة الإفريقية بصفة عامة، وبالخصوص المغرب، موضحا “في هذا المؤتمر سنشهد تكالب الدول الأوروبية؛ خاصة الكبرى على غرار ألمانيا وبريطانيا وإسبانيا وفرنسا، على تقسيم المغرب، وكلها كان لديها أطماع السيطرة على المغرب”.
تكالب أوروبا على المغرب
وسلط خبير العلاقات الدولية الضوء على الأطماع الفرنسية التي أزاحت كل القوى التي كانت تتربص بالمغرب، وقال إن “ألمانيا كانت تتعامل معنا كقطعة حلوى، وفرنسا تنازلت لها عن بعض المستعمرات؛ وهي أجزاء من الكاميرون والتوغو وجزء من الكونغو حاليا، في مقابل توقيع اتفاقية سنة 1911 من أجل تحييد أطماع ألمانيا في المغرب”.
وزاد بأن باريس بعد إزاحة ألمانيا ركزت على بريطانيا ووقعا اتفاقية تنازل متبادل، تتنازل بموجبها بريطانيا لفرنسا عن المغرب، بمعنى لم تعد لها مطالب، في المقابل فرنسا تتنازل لبريطانيا عن مصر”.
وسيظل أمام فرنسا منافس وحيد هو إسبانيا، يضيف المحدث، والتي “كان لها وجود سنة 1884 فقط في السواحل المغربية ببوجدور وفيلا سيسنيروس (الداخلة حاليا) وفي طرفاية، وسيدي إفني طبعا”، مبرزا أن باريس نجحت في توقيع بروتوكولين كانا سريين سنتي 1902 و1904، وقسمت فيها هذه المناطق”.
وأكد أن فرنسا ضربت عصفورين بحجر واحد من خلال تحجيم الوجود الإسباني بالمغرب، “أولا بتحييد إسبانيا عن القوتين ألمانيا وبريطانيا، وفي الوقت نفسه التفرغ للصحراء الشرقية، لأنه في الفترة بين 1902 و1904 كانت بداية استعمار الصحراء الشرقية، وهي كل المناطق ما دون فجيج إلى غاية عين صالح، تقريبا مليون ونصف مليون كلم مربع، يعني ضعف مساحة المغرب، وهي الصحراء الشرقية المغربية المقتطعة”، مشيرا إلى أن “فرنسا لإزاحة إسبانيا تنازلت لها عن السمارة ببروتوكولي 1904 و1902، أي اعترفت بوجودها في الساقية الحمراء ووادي الذهب، أو ما كانت تسميه إسبانيا آنذاك الصحراء الإسبانية، ثم في سنة 1912 تنازلت لها حتى عن السمارة، وإن كانت السمارة لم يدخلها الجيش الإسباني إلا ابتداء من سنة 1934”.
ويرى المحلل المختصص في ملف الصحراء المغربية أن كل هذه الوقائع التاريخية شكلت “بذور النشأة” للنزعة الانفصالية، موضحا أنه “كان هناك صراع وتقسيم للحلوى وتنازل هنا وهناك، وبروتوكولات 1902 و1904 واتفاقية 1905 و1911، كلها تتحدث عن تقسيم تركة الإمبراطورية الشريفة، أي المملكة المغربية”.
خطأ الصحراء الشرقية
وعرّج نور الدين على الفترة ما بين من 1934 إلى 1974، التي وصفها بمرحلة “اشتداد عود المشروع الانفصالي”، مبرزا أنه “من سنة 1973 وحتى 1983، ستدخل ليبيا معمر القذافي، ثم جزائر بومدين للواجهة”.
وتابع شارحا “ليبيا كانت أهدافها مختلفة، لأن القذافي كان يخدم مشروعه القومي التقدمي لقلب الأنظمة التي كانت توصف بالرجعية، لكم الآن بعد نصف قرن اكتشفنا من هي ليبيا ونظام الأسد ونظام بومدين”، مضيفا “أما بومدين فقد كان مترددا في البداية وكان لا يدعم البوليساريو، ولكن انقشعت الفكرة الشيطانية في دماغه وعرف أنها الجوكر أو عصا سليمان التي سينهي بها “أطماع” المغرب في استرداد أراضي الصحراء الشرقية التي كانت دائما سيف ديموقليس على الجزائر”.
وشدد أحمد نور الدين على أن “الوثيقة التي لدى المغرب ووقعها فرحات عباس سنة 1961، يدعو فيها للملك الراحل محمد الخامس رحمه الله بعدم المطالبة بالحدود في الصحراء الشرقية ونحن أول ما سنقوم به بعد الاستقلال هو مراجعة الحدود وإعادة الأراضي المقتطعة”، مشددا على أن “هذا من أكبر أو أخطر خطأ استراتيجي ارتكبه المغرب في تاريخه المعاصر”.
وأشار نور الدين إلى أن سنة 1973 شهدت منعطفا مرتبطا بزمن الانقلابات “الذي سيقودنا إلى سنة 1974 وتوقيع اتفاق مدريد”، متسائل “لماذا المغرب قبل التنازل عن جزء من الصحراء الموريتانية، لأن هذه إحدى النقاط التي يتشبث بها الآن المدافعون عن المشروع الانفصالي ويقولون لو كانت أرض الصحراء مغربية فلماذا تقاسمناها مع موريتانيا؟”.
وذكر أنه “في سنتي 1971 و1972 كانت هناك انقلابات أوفقير الأول والثاني، بالإضافة إلى انقلابات أخرى، وكانت هناك محاولة لقلب النظام عن طريق تيار ثوري، أو ما أصبح يسمى في الأدبيات السياسية بالثورة الموْؤُودة، وأعني حركة الفقيه البصري المدعومة من طرف الجزائر”.
انهيار الجزائر وتقهقر المد الانفصالي
ووصلت النزعة الانفصالية أوجها، حسب المتحدث ذاته، في المرحلة ما بين 1973 و1983، التي يرى أنها “المرحلة الذهبية للبترو دولار، يعني مجاري البترو دولار من ليبيا والجزائر، وكانت فترة الاعترافات بما سمي جمهورية تندوف على مستوى الدولي، ووصلت تقريبا 70 دولة في نهاية 1983″، مردفا “لكن سنة 1991 شكلت المنعطف ومنحدر المشروع الانفصالي لاعتبارات جيو سياسية، وبداية الأفول، لأنه في سنة 1983 وقعت أحداث على المستوى الإقليمي وعلى المستوى العالمي ستقسم ظهر هذا المشروع”.
ويوضح في السياق ذاته “على المستوى الإقليمي، وقبل أقل من سنة، شهدت الجزائر الانتفاضة أو الأحداث المسلحة التي قام بها تيار إسلامي سنة 1982، إضافة لأحداث 1988″، مستطردا “هذه كانت بداية تفكك هذا النظام لأنه منخور، ثم انهارت الفترة الذهبية لأسعار البترول، وبالتالي الاقتصاد الجزائري انهار، والقوة البترولية التي كانوا يدعمون بها شراء الذمم والاعترافات والمجهود العسكري، ولم تعد الجزائر قادرة على هذه المصاريف، وبدأ التفكك”.
وشدد على أن هذه المرحلة “انهارت فيها الجزائر حاضنة البوليساريو، لأن المشروع الانفصالي بدون الجزائر يعني أنه ليس هناك شراء ذمم أو اعترافات دولية، وأيضا ليس هناك انطلاق من الأرض الجزائرية”، موضحا بهذا الصدد “الجزائر لما تقول نحن فقط دولة ملاحِظة، فمن أين تنطلق العمليات العسكرية للبوليساريو؟”، مضيفا “من منظور القانون الدولي، الدولة التي تسمح بانطلاق عمليات عسكرية من أرضها إلى بلد آخر يسمى عملا حربيا ضد الدولة، والقانون الدولي يعطيك حق المتابعة، إذا الجزائر غارقة إلى أخمص قدميها في هذا الإشكال، ولكن بعد انهيار الثورة البترولية ما بين 1983 و1986 انهار هذا الضغط”.
الحسن الثاني يكسر شوكة محور الشر
وعلى مستوى التدخل الليبي، أكد أحمد نور الدين أن الملك الراحل الحسن الثاني تمكن من كسر شوكة محور الشر طرابلس-الجزائر بانسحاب معمر القذافي من تمويل البوليساريو ومن المعسكر الجزائري، وتقرب القذافي من الحسن الثاني طلبا لوساطته مع الولايات المتحدة الأمريكية، لتظل الجزائر وحيدة في الثمانينات مع الانهيار الاقتصادي وإعادة الهيكلة وجدولة المديونية.
وسجل على الصعيد الإقليمي، في نونبر 1988، اندلاع أكبر انتفاضة عرفتها مخيمات تندوف ضد الجبهة الانفصالية، مبرزا أنها كانت بداية “الشرخ والانهيار والزلزال الحقيقي داخل الجبهة الانفصالية التي لن تقوم لها قائمة بعدها، لأنه لم يسبق أن وقع اصطدام بين قيادة البوليساريو والساكنة والمخيمات أو داخل القيادة نفسها”.
دوليا، يسترسل خبير العلاقات الدولية، بأن الجزائر، الحاضنة الفعلية للمشروع الانفصالي، كانت تشتغل و’مسخنة كتافها’ بالمعسكر الشرقي الشيوعي، لكن الزلزال الذي ضرب العالم وهو انهيار جدار برلين في 1989 ومن بعده انهيار الاتحاد السوفيتي، جعل الجزائر عارية الظهر داخليا واقتصاديا وسياسيا”، مشيرا إلى أنه “في هذه الفترة بدأت العودة الكبرى للقيادات السياسية للجبهة للمغرب، ويتعلق الأمر بمعظم القيادات المؤسسة، لتظل قيادات الصف الثاني أو الثالث”.