في البدء كانت الكلمة، فهي الخيط الناظم للواقع المهني للتراجمة الفوريين، لاسيما داخل أروقة الأمم المتحدة، إذ لا تقتصر على مجرد كونها مهنة للشغوفين باللغات، بل تعد صلة وصل بين وفود الدول الأعضاء الـ193، والقناة الناقلة لمواقفها وآرائها، بكل موضوعية ووضوح.
خلال الأحداث البارزة، كما هو الحال بالنسبة للدورة السنوية للجمعية العامة للأمم المتحدة، تبذل كتيبة المترجمين الفوريين كل قوتها، إذ تقوم بالتداريب الصوتية وتجميع المدارك المعرفية واللغوية، متخذين من القمرة المخصصة مقرا لهم.
يقفون على أهبة الاستعداد لأداء واجبهم في التواصل، باللغات الرسمية الست للمنظمة الدولية، وهي العربية والإنجليزية والماندراين والفرنسية والإسبانية والروسية. والأمل دائما بالنجاح في هذه المهمة الجبارة دون أي عوائق.
خلال الأحداث الكبرى التي تكتسي أهمية دولية وجيوسياسية، يتم غالبا تسليط الأضواء على المتدخلين والمواضيع التي ستتم مناقشتها، فيما يتم اعتبار عملية التواصل ونقل المعلومات التي تنطوي على ضغوط جمة وقيود عديدة، أمرا مسلما به، طالما أن “جنود الخفاء” الذين يضطلعون بهذه المهمة يتخندقون في قمرات بعيدة عن الأعين.
يبرز موقع الترجمة المتخصص “Bureauworks.com”، ومقره ميامي، أن “المترجمين الفوريين للأمم المتحدة يقدمون للعالم خدمة هامة. فهم يعايشون التاريخ ويصنعونه كل يوم، متغلبين على الحواجز الثقافية واللغوية على الصعيد الدولي”.
وبحكم طبيعة عملهم، يتعامل هؤلاء المترجمون الفوريون، سواء في نيويورك أو جنيف أو فيينا وأيضا في روما ونيروبي، يوميا مع بعض أبرز الشخصيات وأكثرها تأثيرا في العالم، ويعبرون باسمهم خلال الاجتماعات الأممية.
بالنسبة للبعض، تعد الترجمة الفورية مهنة تتيح لممارسيها العديد من الامتيازات، من خلال مواكبة المستجدات الدولية واكتشاف آفاق جديدة والسفر للعمل في مختلف المؤتمرات التي تنظمها المنظمة متعددة الأطراف في العالم.
بيد أن الواقع المهني اليومي للمترجم ليس بالسهولة التي يتصورها البعض، بل يتخلله التوتر والاستعداد الدائم للتكيف مع أي حالة طارئة قد تسببها سرعة حديث المتدخل أو صعوبة فهم لهجته.
وبرأي المتخصصين في هذا المجال الدقيق، فإن هذه المهنة-الرياضة الذهنية، تتطلب مرونة ورباطة جأش وسنوات من الخبرة، حتى يتمكن المترجم الفوري من الإمساك بزمام الأمور.
في هذا الصدد، توضح دايانا لياو، التي تتوفر على خبرة تناهز الثلاثين عاما في قسم الترجمة الفورية داخل الأمم المتحدة بنيويورك، أن “المترجم الفوري الجيد قادر على إتقان التقنيات المطلوبة من أجل إدارة المواقف الصعبة، مع الحرص على تجنب الذعر”.
ووعيا منهم بحجم المهمة ومتطلباتها، يعمل المترجمون الفوريون الأمميون ضمن مجموعات تضم اثنين أو ثلاثة مترجمين لكل ثنائية لغوية. ويتناوب أعضاء الفريق كل 20 إلى 30 دقيقة مما يتيح مجاراة وتيرة حديث المتدخل وتفادي الإرهاق الجسدي أو الفكري وتجنب أي أخطاء قد تكون لها تبعات سياسية.
تعتبر لياو أن “الترجمة الفورية تبدو المهنة المثالية، لكن الأمور قد تأخذ منحى أكثر تعقيدا حين يتسبب أدنى خطأ في الترجمة في عواقب وخيمة على السياسة العالمية”.
وبالنسبة للمترجم الفوري للمؤتمرات والمترجم المعتمد لدى الأمم المتحدة، إمام اللجام، فإن عملية التواصل خلال الاجتماعات الأممية “يجب أن تكون دقيقة وواضحة لتجنب سوء الفهم الذي قد تكون له تبعات وخيمة”.
ويضيف اللجام، الذي يقر بجسامة هذه المهمة: “آنذاك يغدو عمل المترجم حاسما، فالأمر لا يتعلق فقط بترجمة الكلمات، بل أيضا تأويل النوايا والاختلافات الثقافية الدقيقة والسياق المرتبط بالتصريح”.
وأوضح أن “مهمة المترجمين الفوريين في هذا السياق تعد جسيمة”، فالأمر لا يقتصر على السرعة والدقة، بل يجب عليهم أيضا استيعاب الرهانات الدبلوماسية، إذ يمكن أن تتسبب الترجمة الخاطئة لمصطلح في تغيير لهجة المفاوضات.
وفي عالم يمكن أن تعتمد فيه الاتفاقيات الاقتصادية والسياسية والتجارية على كلمة أو تعبير محدد، يضيف السيد اللجام، يجب على المترجم الفوري أن يتوخى الحذر الدائم في اختيار المفردات، حتى يتمكن من احترام مبادئ الحياد التي تدافع عنها الأمم المتحدة، قلعة العمل متعدد الأطراف.